فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (16):

{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)}
{وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء} أي آخر النهار. وقرئ: {عشياً} وهو تصغير عشي وعشي بالضم والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء. {يَبْكُونَ} متباكين. روي أنه لما سمع بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بني وأين يوسف.

.تفسير الآية رقم (17):

{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)}
{قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} نتسابق في العدو أو في الرمي، وقد يشترك الافتعال والتفاعل كانتضال والتناضل. {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صادقين} لسوء ظنك بنا وفرط محبتك ليوسف.

.تفسير الآيات (18- 19):

{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)}
{وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاؤوا كاذبين و{كَذَّبَ} بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري. وقيل: أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور. روي: أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. ولذلك {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمراً عظيماً من السول وهو الاسترخاء. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، وفي الحديث: «الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق» {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح.
{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريباً من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه. {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي. {فأدلى دَلْوَهُ} فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه. {قَالَ يَا بُشْرىً هذا غُلاَمٌ} نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعالى فهذا أوانك. وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. وقرأ غير الكوفيين {يا بشراي} بالإِضافة، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي. وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ: {يَا بُشْرى} بالإِدغام وهو لغة و{بشراي} بالسكون على قصد الوقف. {وَأَسَرُّوهُ} أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. {بضاعة} نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة. {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)}
{وَشَرَوْهُ} وباعوه، وفي مرجع الضمير الوجهان أو اشتروه من اخوته. {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} مبخوس لزيفه أو نقصانه. {دراهم} بدل من الثمن. {مَّعْدُودَةً} قليلة فإنهم يزنون ما بلغ الأوقية ويعدون ما دونها. قيل كان عشرين درهماً وقيل كان اثنين وعشرين درهماً. {وَكَانُواْ فِيهِ} في يوسف. {مِنَ الزهدين} الراغبين عنه والضمير في {وَكَانُواْ} إن كان للإِخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه، لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه، وإن كانوا مبتاعين فلأنهم اعتقدوا أنه آبق وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف، وإن جعل بمعنى الذي فهو متعلق بمحذوف بينه الزاهدين لأن متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)}
{وَقَالَ الذي اشتراه مِن مّصْرَ} وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير أو إطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي وقد آمن بيوسف عليه السلام ومات في حياته. وقيل كان فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} والمشهور أنه من أولاد فرعون يوسف. والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء. روي: أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. واختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه به غير الأول: عشرون ديناراً وزوجا نعل وثوبان أبيضان. وقيل ملؤه فضة وقيل ذهباً. {لاِمْرَأَتِهِ} راعيل أو زليخا. {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} اجعلي مقامه عندنا كريماً أي حسناً والمعنى أحسني تعهده. {عسى أَن يَنفَعَنَا} في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} نتبناه وكان عقيماً لما تفرس فيه من الرشد، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت {ياأبت استجره} وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرض} وكما مكنا محبته في قلب العزيز أو كما مكناه في منزله أو كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز مكنا له فيها. {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} عطف على مضمر تقديره ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه أي كان القصد في إنجائه وتمكينه إلى أن يقيم العدل ويدبر أمور الناس، ويعلم معاني كتب الله تعالى وأحكامه فينفذها، أو تعبير المنامات المنبهة على الحوادث الكائنة ليستعد لها ويشتغل بتدبيرها قبل أن تحل كما فعل لسنيه. {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} لا يرده شيء ولا ينازعه فيما يشاء أو على أمر يوسف أراد به إخوته شيئاً وأراد الله غيره فلم يكن إلا ما أراده. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كله بيده، أو لطائف صنعه وخفايا لطفه.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)}
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين، وقيل سن الشباب ومبدؤه بلوغ الحلم. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا} حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكماً بين الناس. {وَعِلْماً} يعني علم تأويل الأحاديث. {وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله وإتقانه في عنفوان أمره.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}
{وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ في بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} طلبت منه وتمحلت أن يواقعها، من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد. {وَغَلَّقَتِ الأبواب} قيل كانت سبعة والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإِيثاق. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي أقبل وبادر، أو تهيأت والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح كأين واللام للتبيين كالتي في سقيا لك. وقرأ ابن كثير بالضم وفتح الهاء تشبيهاً له بحيث، ونافع وابن عامر بالفتح وكسر الهاء كعيط. وقرأ هشام كذلك إلا أنه يهمز. وقد روي عنه ضم التاء وهو لغة فيه. وقرئ: {هَيْتَ} كجير و{هئت} كجئت من هاء يهيئ إذا تهيأ وقرئ هيئت وعلى هذا فاللام من صلته. {قَالَ مَعَاذَ الله} أعوذ بالله معاذاً. {إِنَّهُ} إن الشأن. {رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ} سيدي قطفير أحسن تعهدي إذ قال لك في {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} فما جزاؤه أن أخونه في أهله. وقيل الضمير لله تعالى أي إنه خالقي أحسن منزلتي بأن عطف على قلبه فلا أعصيه. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} المجازون الحسن بالسيء. وقيل الزناة فإن الزنا ظلم على الزاني والمزني بأهله.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه، والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله. {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة، ولا يجوز أن يجعل {وَهَمَّ بِهَا} جواب {لَوْلاَ} فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها، بل الجواب محذوف يدل عليه. وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل تمثل له يعقوب عاضاً على أنامله. وقيل قطفير. وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء. {كذلك} أي مثل التثبيت ثبتناه، أو الأمر مثل ذلك. {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} خيانة السيد. {والفحشاء} الزنا. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} الذين أخلصهم الله لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)}
{واستبقا الباب} أي تسابقا إلى الباب، فحذف الجار أو ضمن الفعل معنى الابتدار. وذلك أن يوسف فرَّ منها ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} اجتذبته من ورائه فانقد قميصه والقد الشق طولاً والقط الشق عرضاً. {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} وصادفا زوجها. {لدى الباب قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إيهاماً بأنها فرت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وتغييره على يوسف وإغراءه به انتقاماً منه، و{مَا} نافية أو استفهامية بمعنى أي شيء جزاءه إلا السجن.

.تفسير الآية رقم (26):

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)}
{قَالَ هي رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} طالبتني بالمؤاتاة، وإنما قال ذلك دفعاً لما عرضته له من السجن أو العذاب الأليم، ولو لم تكذب عليه لما قاله. {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قيل ابن عم لها. وقيل ابن خال لها صبياً في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «تكلم أربعة صغاراً ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام» وإنما ألقى الله الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها. {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين} لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قدامه بالدفع عن نفسها، أو أنه أسرع خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)}
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين} لأنه يدل على أنها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته. والشرطية محكية على إرادة القول أو على أن فعل الشهادة من القول، وتسميتها شهادة لأنها أدت مؤداها والجمع بين إن وكان على تأويل أن يعلم أنه كان ونحوه ونظيره قولك: إن أحسنت إلى اليوم فقد أحسنت إليك من قبل، فإن معناه أن تمنن علي بإحسانك أمنن عليك بإحساني لك السابق. وقرئ: {مِن قَبْلُ} {وَمِنْ دُبُرٍ} بالضم لأنهما قطعا عن الإِضافة كقبل وبعد، وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف وبسكون العين.

.تفسير الآيات (28- 33):

{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)}
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ} إن قولك {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا} أو إن السوء أو إن هذا الأمر. {مِن كَيْدِكُنَّ} من حيلتكن والخطاب لها ولأمثالها أو لسائر النساء. {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} فإن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيراً في النفس ولأنهن يواجهن به الرجال والشيطان يوسوس به مسارقة.
{يُوسُفَ} حذف منه حرف النداء لقربه وتفطنه للحديث. {أَعْرِضْ عَنْ هذا} اكتمه ولا تذكره. {واستغفرى لِذَنبِكِ} يا راعيل. {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ} هي اسم لجمع امرأة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقي ولذلك جرد فعله وضم النون لغة فيها. {فِى المدينة} ظرف لقال أي أشعن الحكاية في مصر، أو صفة نسوة وكن خمساً وزوجة الحاجب والساقي والخباز والسجان وصاحب الدواب. {امرأت العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَّفْسِهِ} تطلب مواقعة غلامها إياها. و{العزيز} بلسان العرب الملك وأصل فتى فتي لقولهم فتيان والفتوة شاذة. {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها حباً، ونصبه على التمييز لصرف الفعل عنه. وقرئ: {شعفها} من شعف البعير إذا هنأه بالقطران فأحرقه. {إِنَّا لَنَرَاهَا في ضلال مُّبِينٍ} في ضلال عن الرشد وبعد عن الصواب.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن، وإنما سماه مكراً لأنهن أخفينه كما يخفي الماكر مكره، أو قلن ذلك لتريهن يوسف أو لأنها استكتمتهن سرها فأفشينه عليها. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة فيهن الخمس المذكورات. {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ} ما يتكئن عليه من الوسائد. {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} حتى يتكئن والسكاكين بأيديهن فإذا خرج عليهن يبهتن ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فيبكتن بالحجة، أو يهاب يوسف مكرها إذا خرج وحده على أربعين امرأة في أيديهن الخناجر. وقيل متكأ طعاماً أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب ترفاً ولذلك نهى عنه. قال جميل:
فَظَللنا بِنِعْمَةٍ وَاتَكَأْنَا ** وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُللِهْ

وقيل المتكأ طعام يحز حزاً كأن القاطع يتكئ عليه بالسكين. وقرئ: {متكأ} بحذف الهمزة و{متكاء} بإشباع الفتحة كمنتزاح و{متكا} وهو الأترج أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه و{متكأ} من تكئ يتكأ إذا اتكأ. {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} عظمنه وهبن حسنه الفائق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر» وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران. وقيل أكبرن بمعنى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت لأنها تدخل الكبر بالحيض، والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف عليه الصلاة والسلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبي:
خَفِ اللّهَ وَاسْتُرْ ذَا الجَمَالَ بِبرقع ** فَإِنَ لحتَ حَاضَتْ فِي الخُدُورِ العَواتِقُ

{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة. {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له من صفات العجز وتعجباً من قدرته على خلق مثله، وأصله {حاشا} كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفاً وهو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما في قولك سقيا لك. وقرئ: {حاش الله} بغير لام بمعنى براءة الله، و{حاشا لله} بالتنوين على تنزيله منزلة المصدر. وقيل: {حاشا} فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية الله مما يتوهم فيه. {مَا هذا بَشَرًا} لأن هذا الجمال غير معهود للبشر، وهو على لغة الحجاز في إعمال ما عمل ليس لمشاركتها في نفي الحال. وقرئ بَشَرٌ بالرفع على لغة تميم وبشرى أي بعبد مشترى لئيم. {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} فإن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة، أو لأن جماله فوق جمال البشر ولا يفوقه فيه إِلا الملك.
{قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني في الافتنان به قبل أن تتصورنه حق تصوره، ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني أو فهذا هو الذي لمتني فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعاً لمنزلة المشار إليه. {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} فامتنع طلباً للعصمة، أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته. {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ} أي ما آمر به، فحذف الجار أو أمري إياه بمعنى موجب أمري فيكون الضمير ليوسف. {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين} من الإذلاء وهو من صغر بالكسر يصغر صغراً وصغاراً والصغير من صغر بالضم صغراً. وقرئ: {لَّيَكُونُنَّ} وهو يخالف خط المصحف لأن النون كتبت فيه بالألف {نسفعاً} على حكم الوقف وذلك في الخفيفة لشبهها بالتنوين.
{قَالَ رَبّ السجن} وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر. {أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} أي آثر عندي من مؤاتاتها زناً نظراً إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه، وإسناد الدعوة إليهن جميعاً لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها. أو دعونه إلى أنفسهن، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر. {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى} وإن لم تصرف عني. {كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها. وقرئ: {أَصْبُ} من الصبابة وهي الشوق. {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء.